• 2021-03-10

من رجالات الدولة .. عبدالعزيز الحسن في ذمة الله (1929 - 8/2/2021م)

كثيرا ما نظن أن كلمة رجالات هي جمع للجموع فقط بتكثير مجموعات الرجال فيقال في جمعهم رجالات. وإن كان هذا المعنى صحيحا عند اللغويين ولكن المعنى الآخر لمّا يُذكر الرجالات يكون للتعظيم وليس للعدد الكثير فقط. فيقولون رجالات الإسلام ورجالات الدولة تعظيمًا لشأنهم وقدرهم ومكانتهم وكأن المقصود أن كل واحد منهم يساوي مجموعة من الرجال. وفي رأيي المتواضع أن ليس كل من تقلد منصبا رفيعا في الدولة يكون من رجالاتها بل هم أولئك الذين لا ينتهي ذكرهم ويُنسأ لهم فيأثرهم حتى بعد وفاتهم.

وسعادة السفير الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله بن خليل الحسن ابن المحرق العتيقة الذي نرثيه اليوم ونحن نودعه بهذه الكلمات المتواضعة التي لا تفي شيئا من حقه العظيم هو من هؤلاء الرجالات الذين إذا ذُكر اسمه تعرف كيف يكون انعكاس السيرة الطيبة المباركة على لسان من عرفه وخالطه وعمل معه وتعلم منه. الأستاذ الفاضل عبدالعزيز رحمه الله تعالى لا نستطيع أن نحيط مناقبه وسيرته في مقال ولا حتى في كتاب. فحياته الزاخرة بالعطاء والإنجازات وما حباه الله من سجايا الطيب والخلق تحتاج مؤلفا علّه يلقي الضوء على بعض محطات تلكم السيرة المباركة.

ولكن بلمحة من الوفاء سأحاول في هذه السطور أن أوصل شيئا عن الراحل العظيم للقارئ الكريم لعلي أوفق فيما أصبو إليه. فلو تكلمت أولا عن عمله في الدولة وعن نشاطه الحافل في مؤسسات العمل الوطني فتلك قصة طويلة كثيرة الفصول والمشاهدفيها العجب من هذه الهمة العالية في سيرة هذا الراحل العظيم. سنوات من العمل الدؤوب في الدولة قضى منها زهاء ربع قرن من الزمان في إدارة القطاع الزراعي في البحرين وقد توثقت إبانها علاقته بالأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان طيّب الله ثراه الذي كان يعشق الزراعة ويقيم لها احتفالًا ومعرضًا للأزهار يحرص على رعايته بنفسه في كل عام. وقد كانت بصمات الراحل الكبير الأستاذ عبدالعزيز واضحة في قطاع الزراعة في تلك الفترة المزدهرة زراعيًا في تاريخ البحرين.

أما المرحلة الثانية من حياته العملية فقد كانت في الدبلوماسية وهو أهل لها بعد أن زكاه سمو نائب رئيس الوزراء الشيخ محمدبن مبارك والذي كان وزيرا للخارجية آنذاك ورشحه للانضمام للسلك الدبلوماسي. وكانت البداية لمشواره الدبلوماسي في بغداد لما قدم نفسه للرئيس العراقي صدام حسين كسفير للمنامة في بغداد مع بدايات الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. وما لبث رحمه الله في بغداد طويلا بسبب صعوبة العيش فيها جراء الحرب فانتقل من هناك إلى عمّان وقدم نفسه للعاهل الأردني الملك حسين بن طلال كسفير للبحرين في الأردن. له قصص كثيرة ومثيرة تحكي بعضا من الجمال وكذا المعاناة أيام عمله كسفير من المؤسف ألا يكون للدولة أو وزارة الخارجية أرشيف يوثقها. ومن قصص المعاناة أيام عمله سفيرًا في بغداد أنه كان رحمه الله يغسل ثيابه لوحده ولم تكن عنده حتى غسالة وهو السفير المبجل ومبعوث أمير الدولة هناك. أما عن حياته كسفير في الأردن التي امتدت لأكثر من ست سنوات فقد كان رحمه الله يذكرها بكثير من الإعزاز والامتنان لملك الأردن وأهلها الطيبين.

كان رحمه الله شخصية قديرة من الطراز الأول ثابتة على الإتقان والعطاء بتفان مشهود في خدمة الوطن والناس. وظلت سيرته الطيبة في العمل الخيري والأهلي وأثره الخالد في تأسيس جمعية مكافحة التدخين والتي كان لها صيت طيب في ثمانينات القرن الماضي وما بعدها وكانت سببًا لإقلاع الكثيرين من أهل البحرين عن هذه العادة السيئة. ومن أجل هذه الغاية كان الأستاذ عبدالعزيز يجول على مدارس البحرين في الصباح الباكر بلباسه الرياضي الأنيق بعد أن يصلي الفجر ويقوم برياضة المشي اليومية المعتادة ليشارك الطلبة في الطابور الصباحي ويحذرهم من خطر التدخين وضرورة تجنبه مما كان له أطيب الأثر على نفوس الطلاب والمعلمين وحتى أولياء الأمور حينذاك. بل كان من فضل الله عليه أن تعدى نشاط جمعيته بأن كوّنت نواة لاحتضان الذين وقعوا في شباك إدمان المخدرات الذين كان رحمه الله يلتقي بهم شخصيا وكان لجمعيته الفضل بعد الله لتخلص مجموعة منهم من الإدمان بجهود فردية وإمكانات بسيطة ولكن بنوايا خالصة وقلوب حية. وعلى المستوى الفردي قد كتب الله لأستاذنا الراحل القبول في الأرض وبين الناس. فقد حدثنا كثير ممن عرفوه رحمه الله عن جهوده الفردية في إصلاح ذات البين والإصلاح الأسري ونصيحة الأزواج الذين يدب بينهم خلاف وانفصال وقد أصلح الله بيوتا على يديه. شهد له بذلك أهل البديع مثلا الذين لازالوا يذكرون له ذلك الجميل بما دخل للقلوب عندهم قبل البيوت.

ولو تكلمنا عن صفاته الربانية فقد كان رحمه الله من أهل المساجد الذين يشهد لهم بعمارتها وكان قارئا متدبرا لكتاب الله في كل يوم وليلة. وقد أثرى سمته الكريم وتدينه منذ أن كان صغيرا يافعا وسطه الذي عاش فيه حيث خرج من بيت متدين اعتاد فيه على حب فضائل الأمور وقد كانت والدته رحمها الله لا تُرى في يوم إلا وهي صائمة تطوعا لله عز وجل ، وكانت تحج بيت الله مرات عديدة بالرغم من مشقة الطريق، وفي بعض السنوات كانت تمكث في مكة بعد الحج تنتظر موسم الحج للعام الذي يليه مما ابنها عبدالعزيز يستلهم ذلك النقل الرباني فينعكس عليه وعلى سلوكه وتدينه. ولما التحق رحمه الله بالتعليم الجامعي في بداية الخمسينات من القرن الماضي في مصر وبالتحديد في القليوبية قدر الله له أن يلتقي بعظماء الفكر الإسلامي حينذاك فيفيد من تجربتهم ويبحر في فيض علومهم مما صاغ شخصيته الفذة بشكل كبير.

لو قُدِّر لك أن تلتقيه يوما في مناسبة أو حتى مصادفة عابرة فلن يتركك رحمه الله دون أن يستثمر شيئا في نفسك. فتراه ينصت إليك بأدب جم واحترام وتقدير قلّ نظيره بالرغم من مكانته سنًا وقدرًا وعلمًا ويستمع إليك وكأنما هو من يريد أن يتعلم منك وهو المعلم الناصح رحمه الله. وكان من فرط تواضعه أن ترى عينيه يملؤهما الإشفاق دائمًا حين اللقاء ولا يحد النظر بهما في شيء حياء لله وقد كانت له ابتسامة ساحرة قلما تفارق وجهه الكريم. فإذا تكلم رحمه الله بعد إنصات يقول كلاما ليس بالطويل ولكن كما البلسم في معناه وكما الأغنية في مفرداتها التي كان يحرص على انتقائها بعناية كي يترك عند محدثه ذلك الانطباع الجميل بطريقة الأستاذ الجليل والأب الرحيم والمصلح المشفق. وقد كان أيضا مربيا فاضلا وحازما لو رأى من يهمه أمرهم يتهاونون في الصلاة مثلا.

بخسارته اليوم نخسر علما من أعلام البحرين قلّما يتكرر مثيله جاب البلدان ولم ينس من هو ولم ينس وطنه وأهله وأصدقاءه الكثر من النخبة الرائعة في ذلك العصر. وكان يبر أرحامه وأقرباءه حتى في حال سفره بأنواع البر الذي لا يصدر إلا من الكرام فقد كان باذلا لله سخيا معطاء جوادا. وقد نُقل عنه رحمه الله أنه تحمل جميع ديون والده التي تركها بعد مماته نيابة عن كل العائلة فسددها وكان سندا للجميع حتى أولاد أخيه ولم يتركهم لحظة في حالة عوز رحمه الله. وكان لا يزعجه السؤال والطلب بل كان يحب الوصل ويجعل قلبك يهفو إليه بشغف رجاء اللقاء معه من جديد. عاش رحمه الله حياة مديدة زكية الذكر والسيرة حتى توفاه الله وقد جاوز التسعين من عمره المبارك قضاها جميعها في البر والإحسان وتبوء مكانة القدوة الحسنة في المناصب القيادية من عمل الدولة والعمل الخيري والأهلي والبر للأقربين والناس أجمعين. رحمه الله رحمة واسعة وتقبله في الصالحين ولا نملك في لحظة الفراق أكثر من دعاء ندعو الله البَر الرحيم له كي يقبله عنده في الملأ الأعلى وأن يكرم وفادته فهو الكريم سبحانه. اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح لهفي قبره، ونور له فيه‏. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

آخر أخبار الأستاذ وليد الحمادي

  • الشيخ عبدالرحمن بن علي الجودر رحمه الله

    2022-08-21

    - وُلِد الشيخ عبدالرحمن بمدينة المحرق، ‏ونشأ وتربى في بيئة محافظة وختم القرآن الكريم وهو صغير في الكتاتيب، كما تلقى جانباً من العلوم الإسلامية على يد بعض المشايخ من عائلته وأقربائه. - ‏تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة الهداية الخليفية، ثم التحق بالتعلي...

  • في وداع الشيخ الجليل أحمد القطان .. ومن مثلك قد ملك القلوب

    2022-06-21

    يا عيون الدهر سُحِّي أدمعا لفراق أكرم الرجال وشيخ الشيوخ وسيد الدعاة وأستاذ الجيل وشاعر الجمال وحبيب المجالس وفارس المنابر وأسد الحق وسلطان الفصاحة وإمام الوعظ وعنوان التواضع الشيخ الجليل الأديب الأريب القريب أبي عبدالله أحمد بن عبدالعزيز القطان رحمه...

  • الشيخ علي جمعة شهاب رحمه الله عنوان الطِّيبة والنقاء

    2022-04-16

    لا أحسب أن أحداً في هذه الحياة مرّ بشخصية الفقيد العزيز العم الشيخ علي جمعة شهاب رحمه الله ولم يتأثر به. فما إن تلتقيَه حتى يترك في قلبك سعادة من حسن كلامه وسؤاله عنك وتقديره لك وابتسامته التي لا تفارق وجهه بعاطفته الجياشة الصادقة ومحبته الغامرة. ...

  • رابطة علماء الشريعة بدول مجلس التعاون الخليجي

    2021-06-15

    كانت أمنية راودت الكثيرين من علماء الشريعة ، وسائر المخلصين من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي بأن يرتبطوا بكيان واحد يجمعهم رجاء أن تتضافر فيه الجهود لخدمة الدين وهداية الأمة، لاسيما بعد أن أصبحت المؤسسات الجماعية في عصرنا هي التي تناط بها الآمال الك...

  • ابن الدعوة سلمان عجلان

    2021-04-15

    سقى الله أيام الطفولة والصبا والشباب في المساجد وفي أروقة جمعية الإصلاح بذكرياتها الجميلة ، أيام الصفاء والنقاء والتربية والبذل والعطاء ، أيام الدعوة المباركة وأيام النشأة والتكوين. سقى الله ليالي حلقات العلم في المساجد في الفقه والعقيدة والفكر والخل...